أوقدوا المصباح

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وبعد

فإن من أعظم المنن على المسلمين عموماً في مشارق الأرض ومغاربها تخصيصها بشهر رمضان الكريم ، وهو من أعظم الشهور بركة وأكثرها أثراً في حياة المسلمين ، وقد شرعه الله تعالى وفرض صيامه لأعظم الغايات وأسماها كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) وتحقيق التقوى غاية يجب أن تستنفر لها الطاقات ، وتبعث لها الهمم ، وتكتب حظها في حياة كل إنسان يشهد شهر رمضان في أي بقعة من عالم الأرض .

والناظر في كتب السلف عليهم رضوان الله تعالى يجد أنها تطبق على أهمية الشهر ، وتبعث لنا أخباراً عاطرة في اغتنام أيامه ولياليه ، وتأسست من خلال هذه القراءات ثقافة في أوساط كثير من أصحاب مشروع الحق من الدعاة والمصلحين أن شهر رمضان من أعظم الفرص لتربية الذات وتنمية الإيمان في نفوسهم وهذا الحد من مفهوم أحاديث السلف متفق عليه ، وينبغي أن يشاع هذا المفهوم ويأخذ حظه من نفوس المصلحين ، ومن الضرورة بمكان أن يعنى كل إنسان في هذا الشهر بالتخطيط والتنظيم والترتيب بما يكفل له استثماره بأوسع ما يكون ، وأظن أن هذا الشهر فرصة كبيرة جداً لإعادة بعض ذكريات السلف الصالح في مسألة الأوراد التي تتحدث عنها كتب الطبقات سواء كان ذلك في الصلاة أو قراءة القرآن أو الذكر أو عموم الطاعات ، وهذا القدر من الفهم كما قلت متفق عليه ، وينبغي ألا يكون فيه خلاف ، لكن من الخطأ أن تفهم أحاديث السلف وتفسّر بمفاهيم الانكفاء على الذات ، والتوقف عن الدعوة بالكلية ، وقد خلّفت تلك القراءات مثل هذا المفهوم الخاطئ لدى جملة من أصحاب مشروع الحق فانكفأ جملة من المصلحين على بيوتهم ، واهتموا ببناء أنفسهم وتوقفوا عن الدعوة لتغلغل هذا المفهوم في نفوس من خلال قراءات كثيرة لتلك النصوص حتى من أصحاب المشروع .

إن التقوى التي جاء رمضان لإحيائها في النفوس لا تتوقف على المشاريع الذاتية فحسب ، بل يجب أن يعلم أن مشاريع الدعوة والبناء والإصلاح هي كذلك من أعظم مشاريع تحقيق التقوى في القلب فكما أن المسلم يؤجر على صلاته وصيامه وذكره الخاص فإنه كذلك يؤجر على دعوته واستصلاحه للخلق وقيامه بواجب العلم الذي يحمله هذا إذا ما قيل أن العمل الذي يتعلق بالنفع العام أعظم أجراً عند الله تعالى لما يحمله من عبء ثقيل على النفوس من جهة ، وقيام بواجب الله تعالى في الأرض من جهة أخرى ، على أنني أجزم أنه لا تعارض بين المشروعين مشروع بناء الذات وتربيتها من خلال الجوانب العبادية الخاصة ومشروع الدعوة العام الذي يجب أن يقوم بواجبه في الأرض كما أراد الله تعالى ، ومن تأمل حال النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله في رمضان أدرك من سيرته هذا المعلم بوضوح وقد أدركنا علماءنا الكبار من أمثال ابن باز ، وابن عثيمين ، وابن جبرين على مثل هذا المفهوم الواسع .

إن شهر رمضان من أعظم الفرص الكبرى التي ينبغي أن يجتمع لها ويخطط من أجل استثمارها غاية الوسع والطاقة ، بل يجب أن ندرك أن رمضان فرصة كبرى يمكن أن تهدم جزءاً كبيراً من خطط وأهداف أصحاب مشروع الباطل خلال عام بأكمله .

إن على أصحاب المشروع أن يدركوا أن لديهم غنيمة كبرى هي حقيقة باقتطاع سنام الأوقات من أجلها خاصة إذا أدركنا عظمة الشهر في نفوس الناس ، وإقبالهم على كتاب الله تعالى قراءة وتدبراً ، وعنايتهم وحرصهم على الخير ، وكم من هائم على وجه قد عقد أهل الباطل به رؤوسهم عاد يكتب حظه من دين الله تعالى كمولود في تاريخ الإسلام من جديد ، ولهذا كله فإنني أطرح بعض الجوانب التي أراها مهمة في تحقيق استثمار أمثل لهذه الفرصة الكبرى في تاريخ المسلمين :

أولاً : يجب أن يعاد بث روح الدعوة ولغة المشروع وأهمية الإصلاح ورسالة الإسلام في نفوس المعنيين بالإصلاح من خلال إعادة تقويم مفاهيم تلك القراءات التي بثتها كتب السير والتراجم والطبقات عن حياة السلف الصالح في شهر رمضان عبر مواقع التواصل الاجتماعي ، أو اللقاءات التربوية ، على أن ينبه في ذلك إلى عظمة الفرصة وأهميتها ، وأن هذا الوقت بالذات هو من أسوأ الأوقات التي تمر على أصحاب مشروع الباطل لإدراكهم ما ذا يخلف في نفوسهم ، وما ذا يئد من مشروعهم وخططهم ..!

ثانياً : التخطيط لاستثمار الشهر بأوسع ما يكون كل في تخصصه سواء كانت جهات خيرية أو حتى أفراد ، وأن يستوعب ذلك التخطيط كل الفرص الممكنة ، والوسائل المتاحة على أن يكون كل ذلك وفق تخطيط واضح المعالم والأهداف وممكن القياس في نهاية الشهر .


ثالثاً : يجب أن تنطلق مشاريع ومبادرات في كتاب الله تعالى قراءة وتدبراً وفقهاً وفهماً ، وأن يستثمر هذا الشهر في إعادة وهج القرآن في نفوس المسلمين كما أراد الله تعالى وذلك على مستوى الأسر ، أو المساجد أو حتى مواقع التواصل الاجتماعي .

رابعاً : العناية قدر الوسع ببناء بعض الأفكار والمفاهيم المؤثرة لإحياء خطب الجمعة بالذات خاصة وأنها أربع جمع فقط ومن الضرورة أن تلقى على الأقل تصوراً عاماً واضحاً لدى الخطباء كافة ، هذا إذا لم يقال بتخصيص مشروع خاص لها يديره أصحاب الاختصاص .


خامساً : التأكيد على القنوات التي يديرها أصحاب المشروع بتبني برامج جاذبة ومؤثرة لكافة الفئات الأسرية على أن تدرس أوقات بثها ويعمل من جانب آخر على إحياء المفاهيم التي تأتي في مثل هذه البرامج بمشاريع أسرية أو مجتمعية .

سادساً : العناية بالمسجد على وجه العموم وتهيئته لاستقبال المصلين في هذا الشهر ، وإعانتهم على أداء هذه العبادة العظيمة في أجواء ممتعة ، والحرص على إعادة وهج المسجد من خلال برامج ومشروعات مؤثرة في البناء تستفيد من الفرصة بأوسع ما يمكن .


وفي الختام : فإنني أدعو الله تعالى أن يبلغنا شهر رمضان ، وأن يعيننا وعموم المسلمين في أرض الله تعالى على صيامه وقيامه ، وأن يحقق ما نصبوا إليه من آمال ، وهو المسؤول أولاً وأخيراً ومنه العون والتوفيق والكمال . إنه ولي ذلك والقادر عليه .

د/ مشعل بن عبد العزيز الفلاحي

الموضوع الأساسي: أوقدوا المصباح
المصدر: زيزوووم للأمن والحماية








أكثر...